فصل: تفسير الآيات رقم (66- 69)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 69‏]‏

‏{‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏66‏)‏ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏67‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏68‏)‏ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذب به قومك‏}‏ يعني بالقرآن ‏{‏وهو الحق‏}‏ يعني في كونه كتاباً منزلاً من عند الله وقيل الضمير في به يرجع إلى العذاب وهو الحق يعني أنه نازل بهم أن أقاموا على كفرهم وتكذيبهم‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير يرجع إلى تصريف الآيات وهو الحق لأنهم كذبوا كونها من عند الله ‏{‏قلت لست عليكم بوكيل‏}‏‏.‏ أي‏:‏ قل يا محمد لهؤلاء المكذبين لست عليكم بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الحق بل إنما أنا منذر والله هو المجازي لكم على أعمالكم وقيل معناه إنما أدعوكم إلى الله وإلى الإيمان به ولم أومر بحربكم، فعلى هذا القول، تكون الآية منسوخة بآية السيف‏.‏ وقيل في معنى الآية‏:‏ قل لست عليكم بوكيل، يعني حفيظاً إنما أطالبكم بالظاهر من الإقرار والعلم لا بما تحويه الضمائر والأسرار فعلى هذا تكون الآية محكمة ‏{‏لكل نبأ مستقر‏}‏ أي لكل خبر من أخبار القرآن حقيقة ومنتهى ينتهي إليه إما في الدنيا وإما في الآخرة‏.‏ وقيل لكل خبر يخبر الله به وقت ومكان يقع فيه من غير خلف ولا تأخير فكان ما وعدهم به من العذاب في الدنيا وقع يوم بدر ‏{‏وسوف تعلمون‏}‏ يعني صحة هذا الخبر إما في الدنيا وإما في الآخرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا‏}‏ الخطاب في وإذا للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى وإذا رأيت يا محمد هؤلاء المشركين الذين يخوضون في آياتنا يعني القرآن الذي أنزلناه إليك والخوض في اللغة هو الشروع في الماء والعبور فيه، ويستعار للأخذ في الحديث والشروع فيه‏.‏ يقال‏:‏ تخاوضوا في الحديث وتفاوضوا فيه، لكن أكثر ما يستعمل الخوض في الحديث على وجه اللعب والعبث وما يذم عليه ومنه قوله ‏{‏وكنا نخوض مع الخائضين‏}‏ وقيل‏:‏ الخطاب في وإذا رأيت لكل فرد من الناس‏.‏ والمعنى‏:‏ وإذا رأيت أيها الإنسان الذين يخوضون في آياتنا وذلك أن المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في الاستهزاء بالقرآن وبمن أنزله وبمن أنزل عليه، فنهاهم الله أن يقعدوا معهم في وقت الاستهزاء بقوله ‏{‏فأعرض عنهم‏}‏ يعني فاتركهم ولا تجالسهم ‏{‏حتى يخوضوا في حديث غيره‏}‏ يعني حتى يكون خوضهم في غير القرآن والاستهزاء به ‏{‏وإما ينسينك الشيطان‏}‏ يعني فقعدت معهم ‏{‏فلا تقعد بعد الذكرى‏}‏ يعني إذا ذكرت فقم عنهم ولا تقعد ‏{‏مع القوم الظالمين‏}‏ يعني المشركين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم‏}‏ قال المسلمون‏:‏ كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبداً‏؟‏ وفي رواية، قال المسلمون، إنا نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننهاهم فأنزل الله هذه الآية ‏{‏وما على الذين يتقون‏}‏ يعني يتقون الشرك والاستهزاء من حسابهم من حساب المشركين من شيء يعني ليس عليهم شيء من حسابهم ولا آثامهم ‏{‏ولكن ذكرى‏}‏ يعني ولكن ذكروهم ذكرى‏.‏

وقيل‏:‏ معناه ولكن عليكم أن تذكروهم ‏{‏لعلهم يتقون‏}‏ يعني لعل تلك الذكرى تمنعهم من الخوض والاستهزاء‏.‏

‏(‏فصل‏)‏

قال سعيد بن المسيب وابن جريج ومقاتل‏:‏ هذه الآية منسوخة بالآية التي في سورة النساء وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم أيات الله يكفر بها ويستهزأ بها‏}‏ وذهب الجمهور إلى أنها محكمة لا نسخ فيها لأنها خبر والخبر لا يدخله النسخ لأنها إنما دلت على أن كل إنسان إنما يختص بحساب نفسه لا بحساب غيره، وقيل‏:‏ إنما أباح لهم القعود معهم بشرط التذكير والموعظة فلا تكون منسوخة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 71‏]‏

‏{‏وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً‏}‏ الخطاب للنبي‏.‏ يعني‏:‏ وذر يا محمد هؤلاء المشركين الذين اتخذوا دينهم الذي أمروا به ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعباً ولهواً وذلك حيث سخروا به واستهزؤوا به وقيل إنهم اتخذوا عبادة الأصنام لعباً ولهواً‏.‏ وقيل‏:‏ إن الكفار إذا سمعوا القرآن لعبوا ولهوا عند سماعه‏.‏ وقيل إن الله جعل لكل قوم عيداً فاتخذ كل قوم دينهم يعني عيدهم لعباً ولهواً يلعبون ويلهون فيه إلا المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم صلاة وتكبيراً وفعل الخير فيه مثل عيد الفطر وعيد النحر ويوم الجمعة ‏{‏وغرتهم الحياة الدنيا‏}‏ يعني أنهم اتخذوا دينهم لعباً ولهواً لأجل أنهم غرتهم الحياة الدنيا وغلب حبها على قلوبهم فأعرضوا عن دين الحق واتخذوا دينهم لعباً ولهواً ومعنى الآية‏:‏ وذَرْيا محمد الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً واتركهم ولا تبالِ بتكذيبهم واستهزائهم وهذا يقتضي الإعراض عنهم ثم نسخ ذلك الإعراض بآية السيف وهو قول قتادة والسدي‏.‏ وقيل‏:‏ إنه خرج مخرج التهديد فهو كقوله ‏{‏ذرني ومن خلقت وحيداً‏}‏ وهذا قول مجاهد فعلى هذا تكون الآية محكمة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالإعراض عنهم‏:‏ ترك معاشرتهم ومخالطتهم لا ترك الإنذار والتخويف ويدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وذكر به‏}‏ يعني وذكر بالقرآن وعِظْ به هؤلاء المشركين ‏{‏أن تبسل نفس بما كسبت‏}‏ أي لئلا تبسل نفس وأصل البسل في اللغة‏:‏ التحريم وضم الشيء ومنعه‏.‏ وهذا عليك بسل‏:‏ أي حرام ممنوع‏.‏ فمعنى تبسل نفس بما كسبت‏:‏ ترتهن وتحبس في جهنم وتحرم من الثواب بسب بما كسبت من الآثام‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ تبسل تهلك‏.‏ وقال قتادة‏:‏ تحبس يعني في جهنم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ تحرق بالنار‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ تؤخذ يعني بما كسبت‏.‏ وقيل‏:‏ تفضح‏.‏ والمعنى‏:‏ وذكرهم بالقرآن ومواعظه وعرفهم الشرائع لكي لا تهلك نفس وترتهن في جنهم بسبب الجنايات التي اكتسبت في الدنيا وتحرم الثواب في الآخرة ‏{‏ليس لها‏}‏ يعني لتلك النفس التي هلكت ‏{‏من دون الله ولي‏}‏ أي قريب يلي أمرها ‏{‏ولا شفيع‏}‏ يعني يشفع لها في الآخرة ‏{‏وإن تعدل كل عدل‏}‏ يعني وإن تفتد بكل فداء والعدل الفداء ‏{‏لا يؤخذ منها‏}‏ يعني العدل وتلك الفدية ‏{‏أولئك الذين‏}‏ إشارة إلى الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا ‏{‏أبسلوا بما كسبوا‏}‏ يعني أسلموا إلى الهلاك بسبب ما اكتسبوا ‏{‏لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون‏}‏ ذلك لهم بسبب كفرهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا‏}‏ يعني‏:‏ قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين دعوك إلى دين آبائك أندعو يعني أنعبد من دون الله يعني الأصنام التي لا تنفع من عبدها ولا تضر من ترك عبادتها ‏{‏ونرد على أعقابنا‏}‏ يعني ونرد إلى الشرك ‏{‏بعد إذ هدانا الله‏}‏ يعني إلى دين الإسلام والتوحيد ‏{‏كالذي استهوته الشياطين في الأرض‏}‏ يعني كالذي ذهبت به الشياطين فألقته في هوية من الأرض وأصله من الهوى وهو النزول من أعلى إلى أسفل ‏{‏حيران‏}‏ يقال‏:‏ حارَ فلان في الأمر، إذا تردد فيه فلم يهتد إلى الصواب ولا المخرج منه ‏{‏له أصحاب يدعونه إلى الهدى‏}‏ يعني لهذا المتحير الذي استهوته الشياطين أصحاب على الطريق المستقيم ‏{‏ائتنا‏}‏ يعني يقولون له ائتنا وهذا مثل ضربه الله لمن يدعو إلى عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ولمن يدعو إلى عبادة الله عز وجل الذي يضر وينفع يقول مثلهما كمثل رجل في رفقة ضل به الغول والشيطان عن الطريق المستقيم فجعل أصحابه ورفقته يدعونه إليهم يقولون‏:‏ هلم إلى الطريق المستقيم وجعل الغيلان يدعونه إليهم فبقي حيران لا يدري أين يذهب فإن أجاب الغيلان ضل وهلك وإن أجاب أصحابه اهتدى وسلم ‏{‏قل إن هدى الله هو الهدى‏}‏ يعني أن طريق الله الذي أوضحه لعباده ودينه الذي شرعه لهم هو الهدى والنور والاستقامة لا عبادة الأصنام ففيه زجر عن عبادتها كأنه يقول لا تفعل ذلك فإن هدى الله هو الهدى لا هدى غيره ‏{‏وأمرنا لنسلم‏}‏ أي وأمرنا أن نسلم ونخلص العبادة ‏{‏لرب العالمين‏}‏ لأنه هو الذي يستحق العبادة لا غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 73‏]‏

‏{‏وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏72‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏وأن أقيموا الصلاة واتقوه‏}‏ يعني وأمرنا بإقامة الصلاة والتقوى لأن فيهما ما يقرب إليه ‏{‏وهو الذي إليه تحشرون‏}‏ يعني في يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق‏}‏ يعني إظهاراً للحق فعلى هذا تكون الباء بمعنى اللام لأنه جعل صنعه دليلاً على وحدانيته‏.‏ وقيل‏:‏ خلقها بكمال قدرته وشمول علمه وإتقان صنعه وكل ذلك حق‏.‏ وقيل خلقها بكلامه الحق وهو قول كن فيه دليل على أن كلام الله تعالى ليس بمخلوق لأنه لا يخلق مخلوق بمخلوق ‏{‏ويوم يقول كن فيكون‏}‏‏.‏ وقيل إنه راجع إلى خلق السموات‏.‏ والمعنى‏:‏ اذكر يوم قال للسموات والأرض كن فيكون‏.‏ قيل‏:‏ يرجع إلى القيام ويدل عليه سرعة البعث والحساب كأنه قال‏:‏ ويوم يقول للخلق موتوا فيموتون وقوموا للحساب فيقومون أحياء ‏{‏قوله الحق‏}‏ يعني أن قول الله تبارك وتعالى للشيء إذا أراده كن فيكون حق وصدق وهو كائن لا محالة ‏{‏وله الملك يوم ينفخ في الصور‏}‏ إنما أخبر عن ملكه يومئذ وإن كان الملك له سبحانه وتعالى خالصاً في كل وقت في الدنيا والآخرة لأنه لا منازع يومئذ يدعي الملك وأنه المنفرد بالملك يومئد وأن من كان يدعي الملك بالباطل من الجبابرة والفراعنة وسائر الملوك الذين كانوا في الدنيا قد زال ملكهم واعترفوا بأن الملك لله الواحد القهار وإنه لا منازع له فيه واعلموا أن الذي كانوا يدعونه من الملك في الدنيا باطل وغرور‏.‏

واختلف العلماء في الصور المذكور في الآية فقال قوم‏:‏ هو قرن ينفخ فيه وهو لغة أهل اليمن‏:‏ قال مجاهد‏:‏ الصور قرن كهيئة البوق ويدل على صحة هذا القول ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما الصور‏؟‏ «قال قرن ينفخ فيه» أخرجه أبو داود والترمذي‏.‏

عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كيف أنتم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ فكان ذلك ثقل على أصحابه» فقالوا كيف نفعل يا رسول الله وكيف نقول‏؟‏ قال‏:‏ «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا، وربما قال توكلنا على الله» أخرجه الترمذي‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الصور جمع صورة والنفخ فيه إحياؤها بنفخ الروح فيها‏.‏ وهذا قول الحسن ومقاتل‏.‏ والقول الأول أصح لما تقدم في الحديث ولقوله تعالى في آية أخرى‏:‏ ثم نفخ فيه أخرى‏:‏ ولإجماع أهل السنة أن المراد بالصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل نفختين، نفخة الصعق، ونفخة البعث للحساب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عالم الغيب والشهادة‏}‏ يعني أنه تعالى ما غاب عن عباده وما يشاهدونه فلا يغيب عن عمله شيء ‏{‏وهو الحكيم‏}‏ يعني في جميع أفعاله وتدبير خلقه ‏{‏الخبير‏}‏ يعني بكل ما يفعلونه من خير أو شر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 76‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏74‏)‏ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ‏(‏75‏)‏ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر‏}‏ اختلف العلماء في لفظ آزر فقال محمد بن إسحاق والكلبي والضحاك‏:‏ آزر اسم أبي إبراهيم وهو تارح ضبطه بعضهم بالحاء المهملة وبعضهم بالخاء المعجمة فعلى هذا يكون لأبي إبراهيم اسمان‏:‏ آزر وتارح مثل يعقوب وإسرائيل اسمان لرجل واحد فيحتمل أن يكون اسمه الأصلي آزر وتارح لقب له وبالعكس والله سماه آزر وإن كان عند النسابين والمؤرخين اسمه تارح ليعرف بذلك وكان آزر أبو إبراهيم من كوثي وهي قرية من سواد الكوفة‏.‏ وقال سليمان التيمي‏:‏ آزر سب وعيب‏.‏ ومعناه في كلامهم المعوج‏.‏ وقيل‏:‏ الشيخ الهرم وهو بالفارسية وهذا على مذهب من يجوز أن في القرآن ألفاظاً قليلة فارسية‏.‏ وقيل‏:‏ هو المخطئ فكان إبراهيم عابه وذمه بسبب كفره وزيغه عن الحق‏.‏ وقال سعيد بن المسيب ومجاهد‏:‏ آزر اسم صنم كان والد إبراهيم يعبده وإنما سماه بهذا الاسم لأن من عبد شيئاً أو أحبه جعل اسم ذلك المعبود أو المحبوب اسماً له فهو كقوله ‏{‏يوم ندعو كل أناس بإمامهم‏}‏ وقيل‏:‏ معناه وإذا قال إبراهيم لأبيه آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه والصحيح هو الأول أن أزر اسم لأبي إبراهيم لأن الله تعالى سماه به وما نقل عن النسابين والمؤرخين أن اسمه تارح ففيه نظر لأنهم إنما نقلوه عن أصحاب الأخبار وأهل السير من أهل الكتاب ولا عبرة بنلقهم‏.‏

وقد أخرج البخاري في أفراده من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبره» الحديث فسماه النبي صلى الله عليه وسلم آزر أيضاً ولم يقل أباه تارخ فثبت بهذا ان اسمه الأصلي آزر لا تارخ والله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتتخذ أصناماً آلهة‏}‏ معناه‏:‏ اذكر لقومك يا محمد قول إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة تعبدها من دون الله الذي خلقك ورزقك‏.‏ والأصنام‏:‏ جمع صنم وهو التمثال الذي يتخذ من خشب أو حجارة أو حديد أو ذهب أو فضة على صورة الإنسان وهو الوثن أيضاً ‏{‏إني أراك وقومك في ضلال مبين‏}‏ يعني‏:‏ يقول إبراهيم لأبيه آزر‏:‏ إني أراك وقومك الذي يعبدون الأصنام معك ويتخذونها آلهة في ضلال يعني عن طريق الحق مبين يعني بيَّن لمن أبصر ذلك فإنه لا يشك أن هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع وهذه الآية احتجاج على مشركي العرب بأحوال إبراهيم ومحاجته لأبيه وقومه لأنهم كانوا يعظمون إبراهيم صلى الله عليه وسلم ويعترفون بفضله فلا جرم ذكر قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه في معرض الاحتجاج على مشركين قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض‏}‏ معناه وكما أرينا إبراهيم البصيرة في دينه والحق في خلاف قومه وما كانوا عليه من الضلال في عبادة الأصنام نريه ملكوت السموات والأرض فلهذا السبب عبر عن هذه الرؤية بلفظ المستقبل في قوله وكذلك نرى إبراهيم لأنه تعالى كان أراه بعين البصيرة أن أباه وقومه على غير الحق فخالفهم فجزاه الله بأن أراه بعد ذلك ملكوت السموات والأرض فحسنت هذه العبارة لهذا المعنى‏.‏

والملكوت‏:‏ الملك زيدت فيه التاء للمبالغة كالرهبوت والرغبوت، والحرموت من الرهبة والرغبة والرحمة‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ يعني خلق السموات والأرض‏.‏ وقال مجاهد وسعيد بن جبير‏:‏ يعني آيات السموات والأرض وذلك أنه أقيم على صخرة وكشف له عن السموات حتى رأى العرش والكرسي وما في السموات من العجائب وحتى رأى مكانه في الجنة فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وآتيناه أجره في الدنيا‏}‏ يعني أريناه مكانه في الجنة وكشف له عن الأرض حتى نظر إلى أسفل الأرضين ورأى ما فيها من العجائب‏.‏ قال البغوي‏:‏ وروي عن سليمان ورفعه بعضهم عن علي قال‏:‏ لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض أبصر رجلاً على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فأراد أن يدعو عليه فقال له تبارك وتعالى‏:‏ «يا إبراهيم أنت رجل مجاب الدعوة فلا تدعون على عبادي فإنما أنا من عبدي على ثلاث خلال‏:‏ إما أن يتوب إلي فأتوب عليه وإما أن أخرج منه نسمة تعبدني وإما أن يبعث إلي فإن شئت عفوت وإن شئت عاقبت» وفي رواية، وإن تولى فإن جهنم من ورائه، قال قتادة‏:‏ ملكوت السموات الشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار، واختلف في هذه الرؤية هل كانت بعين البصر أو بعين البصيرة على قولين‏:‏ أحدهما إنها كانت بين البصر الظاهر فشق لإبراهيم السموات حتى رأى العرش وشق له الأرض حتى رأى ما في بطنها‏.‏

والقول الثاني‏:‏ إن هذه الرؤية كانت بعين البصيرة لأن ملكوت السموات والأرض عبارة عن الملك وذلك لا يعرف إلا بالعقل فبان بهذا أن هذه الرؤية كان بعين البصيرة، إلا أن يقال‏:‏ المراد بملكوت السموات والأرض نفس السموات والأرض‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليكون من الموقنين‏}‏ عطف على المعنى ومعناه ‏{‏وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض‏}‏ ليستدل به ‏{‏وليكون من الموقنين‏}‏ واليقين‏:‏ عبارة عن علم يحصل بسب التأمل بعد زوال الشبهة، لأن الإنسان في أول الحال لا ينفك عن شبهة وشك، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت، صارت سبباً لحصول اليقين والطمأنينة في القلب وزالت الشبهة عند ذلك‏:‏ قال ابن عباس في وليكون من الموقنين جلال له الأمر سره وعلانيته فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله تعالى‏:‏ إنك تستطيع هذا فردَّه الله كما كان قبل ذلك فمعنى الآية على هذا القول وكذلك أريناه ملكوت السموات والأرض ليكون ممن يوقن علم كل شيء حساً وخبراً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جن عليه الليل‏}‏ يقال جن الليل وأجن إذا أظلم وغطى كل شيء وأجنه الليل وجن عليه إذا ستره بسواده ‏{‏رأى كوكباً قال هذا ربي‏}‏‏.‏

‏(‏ذكر القصة في ذلك‏)‏

قال أهل التفسير وأصحاب الأخبار والسير‏:‏ ولد إبراهيم عليه السلام في زمن نمرود بن كنعان الملك وكان نمرود أول من وضع التاج على رأسه ودعا الناس إلى عبادته وكان له كهان منجمون، فقالوا له‏:‏ إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه‏.‏ ويقال‏:‏ إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء‏.‏ وقال السدي‏:‏ رأى نمرود في منامه كأن كوكباً قد طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع من ذلك فزعاً شديداً، فدعا السحرة والكهان وسألهم عن ذلك، فقالوا‏:‏ هو مولد يولد في ناحيتك في هذه السنة يكون هلاكك وزوال ملكك وهلاك أهل دينك على يديه، فأمر بذبح كل غلام يولد في تلك السنة في ناحيته وأمر بعزل النساء عن الرجال وجعل على كل عشرة، رجلاً يحفظهم فإذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها لأنهم كانوا لا يجامعون في المحيض فإذا طهرت من الحيض حالوا بينهما‏.‏ قالوا‏:‏ فرجع آزر فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فواقعها فحملت بإبراهيم‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ بعث نمرود إلى كل رجل امرأة حبلى بقربه فحبسها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم فإنه لم يعلم بحبلها لأنها كانت جارية صغيرة لم يعرف الحبل في بطنها‏.‏ وقال السدي‏:‏ فخرج نمرود بالرجال إلى العسكر وعزلها عن النساء تخوفاً من ذلك المولود فمكثت بذلك ما شاء الله ثم بدت له حاجة إلى المدينة فلم يأمن عليها أحداً من قومه إلا آزر فبعث إليه فأحضره عنده وقال له‏:‏ إن لي إليك حاجة أحب أن أوصيك بها ولم أبعثك فيها إلا لثقتي بك فأقسمت عليك ألا تدنو من أهلك‏.‏ فقال آرز‏:‏ أنا اشح على ديني من ذلك فأوصاه بحاجته فدخل المدينة وقضى حاجة الملك، ثم قال‏:‏ لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم فلما دخل على أم إبراهيم ونظر إليها لم يتمالك حتى واقعها فحملت من ساعتها بإبراهيم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لما حملت أم إبراهيم قال الكهان لنمرود‏:‏ إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملت به أمه الليلة، فأمر نمرود بذبح الغلمان فلما دنت ولادة أم إبراهيم وأخذها المخاض، خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها‏.‏ قالوا‏:‏ فوضعته في نهر يابس ثم لفته في خرقة ووضعته في حلفاء ثم رجعت فأخبرت زوجها بأنها ولدت وأن الولد في موضع كذا، فانطلق إليه أبوه فأخذه من ذلك المكان وحفر له سرباً في النهر فواراه فيه وسد بابه بصخرة مخافة السباع‏.‏

وكانت أمه تختلف إليه فترضعه‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلاً إلى مغارة كانت قريبة منها فولدت فيها إبراهيم وأصلحت من شأنه ما يصح بالمولود ثم سدت عليها باب المغارة ثم رجعت إلى بيتها‏.‏ وكانت تختلف إليه لتنظر ما فعل فتجده حياً وهو يمص إبهامه‏.‏ قال أبو روق‏:‏ قالت أم إبراهيم لأنظرن إلى أصابعه فوجدته يمص من أصبع ماء، ومن أصبع لبناً، ومن أصبع سمناً، ومن أصبع عسلاً، ومن أصبع تمراً‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ كان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل فقالت‏:‏ ولدت غلاماً فما صدقها وسكت عنها‏.‏ وكان إبراهيم يشب في اليوم كالشهر وفي الشهر كالسنة فلم يمكث في المغارة إلا خمسة عشر شهراً حتى قال‏:‏ أخرجيني فأخرجته عشاء فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض‏.‏ وقال‏:‏ إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وساقني لربي الذي ما لي إله غيره ونظر في السماء فرأى كوكباً قال‏:‏ هذا ربي ثم أتبعه بصره ينظر إليه حتى غاب فلما أفل قال‏:‏ لا أحب الآفلين‏.‏

فلما رأى القمر بازغاً، قال‏:‏ هذا ربي وأتبعه بصره ينظر إليه حتى غاب ثم طلعت الشمس قال هكذا إلى آخره ثم رجعت به إلى أبيه آزر قد استقامت وجهته وعرف ربه وبرئ من دين قومه إلا أنه لم ينادهم بذلك‏.‏ فلما رجعت به أمه، أخبرته أنه ابنه وأخبرته بما صنعت به فسر بذلك وفرح فرحاً شديداً‏.‏ وقيل‏:‏ إنه مكث في السرب سبع سنين‏.‏ وقيل‏:‏ ثلاث عشرة سنة وقيل سبع عشرة سنة‏.‏ قالوا‏:‏ فلما شب إبراهيم وهو في السرب قال لأمه‏:‏ من ربي‏؟‏ قالت‏:‏ أنا‏.‏ قال‏:‏ فمن ربك‏؟‏ قالت‏:‏ أبوك‏:‏ فمن رب أبي‏؟‏ قالت‏:‏ اسكت، ثم رجعت إلى زوجها فقالت أرأيت الغلام الذي كنا نحدث أنه يغير دين أهل الأرض فإنه ابنك‏.‏ ثم أخبرته بما قال فأتاه أبو آزر فقال إبراهيم‏:‏ يا أبتاه من ربي‏؟‏ قال‏:‏ أمك‏.‏ قال‏:‏ فمن رب أمي‏؟‏ قال‏:‏ انا‏.‏ قال‏:‏ فمن ربك‏؟‏ قال‏:‏ نمرود‏.‏ قال فمن رب نمرود‏؟‏ فلطمه لطمة وقال‏:‏ اسكت‏.‏

فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة فأبصر كوكباً قال‏:‏ هذا ربي ويقال إنه قال لأبويه‏:‏ أخرجاني، فأخرجاه من باب السرب حين غابت الشمس فنظر إبراهيم إلى الإبل والخيل والغنم فسأل أباه ما هذه‏؟‏ قال‏:‏ إبل وخيل وغنم‏.‏ فقال إبراهيم‏:‏ ما لهذه بد من أن يكون لها إله وهو ربها وخالقها‏.‏ ثم نظر، فإذا المشتري قد طلع ويقال إنها الزهرة، وكانت تلك الليلة من آخر الشهر فتأخر طلوع القمر فرأى الكوكب قبل القمر فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فلما جن عليه الليل‏}‏ يعني ستره بظلامه رأى كوكباً قال ‏{‏هذا ربي‏}‏ ثم اختلف العلماء في وقت هذه الرؤية وفي وقت هذا القول هل كان قبل البلوغ أو بعده على قولين‏:‏ أحدهما أنه كان قبل البلوغ في حال طفوليته وذلك قبل قيام الحجة عليه فلم يكن لهذا القول الذي صدر من إبراهيم في هذا الوقت اعتبار ولا يترتب عليه حكم لأن الأحكام إنما تثبت بعد البلوغ‏.‏

وقيل‏:‏ إن إبراهيم لما خرج من السرب في حال صغره ونظر إلى السماء وما فيها من العجائب ونظر إلى الأرض وما فيها من العجائب وكان قد خصه الله بالعقل الكامل والفطرة السليمة تفكر في نفسه وقال لا بد لهذا الخلق من خالق مدبر وهو إله الخلق، ثم نظر في حال تفكره فرأى الكوكب وقد أزهر، فقال‏:‏ هذا ربي على ما سبق إلى وهمه وذلك في حال طفوليته وقبل استحكام النظر في معرفة الرب سبحانه وتعالى واستدل أصحاب هذا القول على صحته بقوله ‏{‏لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين‏}‏ قالوا وهذا يدل على نوع تحير وذلك لا يكون إلا في حال الصغر وقبل البلوغ وقيام الحجة وهذا القول ليس بسديد ولا مَرْضي لأن الأنبياء معصومون في كل حال من الأحوال وأنه لا يجوز أن يكون لله عز وجل رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو بالله عارف وله موحد وله من كل منقصة منزه ومن كل معبود سواه برئ وكيف يتوهم هذا على إبراهيم وقد عصمه الله وطهره وآتاه رشده من قبل وأراه ملكوت السموات والأرض أفبرؤية الكوكب يقول معتقداً هذا ربي‏؟‏ حاشا إبراهيم صلى الله عليه وسلم من ذلك لأن منصبه أعلى وأشرف من ذلك صلى الله عليه وسلم‏.‏

والقول الثاني‏:‏ الذي عليه جمهور المحققين إن هذه الرؤية وهذا القول كان بعد بلوغ إبراهيم وحين شرفه الله بالنبوة وأكرمه بالرسالة ثم اختلف أصحاب هذا القول في تأويل الآية ومعناها فذكروا فيها وجوهاً‏:‏

الوجه الأول‏:‏ أن إبراهيم عليه السلام أراد أن يستدرج قومه بهذا القول ويعرفهم جهلهم وخطأهم في تعظيم النجوم وعبادتها لأنهم كانوا يرون أن كل الأمور إليها، فأراهم إبراهيم أنه معظِّمُ ما عظموه فلما أفل الكوكب والقمر والشمس أراهم النقص الداخل على النجوم بسبب الغيبوبة والأقوال ليثبت خطأ ما كانوا يعتقدون فيها من الألوهية‏.‏ ومثل هذا كمثل الحواري الذي ورد على قوم كانوا يعبدون صنماً فأظهر تعظيمه فأكرموه لذلك حتى صاروا يصدرون عن رأيه في كثير من أمورهم إلى أن دهمهم عدو لا قبل لهم به فشاوروه في أمر هذا العدو فقال‏:‏ الرأي عندي أن ندعو هذا الصنم حتى يكشف عنا ما نزل بنا، فاجتمعوا حول الصنم يتضرعون إليه فلم يغنِ شيئاً فلما تبين لهم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يدفع، دعاهم الحواري وأمرهم أن يدعو الله عز وجل ويسألوه أن يكشف ما نزل بهم، فدعو الله مخلصين، فصرف عنهم ما كانوا يحذرون فأسلموا جميعاً‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن إبراهيم عليه السلام قال هذا القول على سبيل الاستفهام وهو استفهام إنكار وتوبيخ لقومه وتقديره‏:‏ أهذا ربي الذي تزعمون، وإسقاط حرف الاستفهام كثير في كلام العرب ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفإن مت فهم الخالدون‏}‏ يعني أفهم الخالدون‏.‏ والمعنى أيكون هذا رباً ودلائل النقص فيه ظاهرة‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن إبراهيم عليه السلام قال ذلك على وجه الاحتجاج على قومه يقول هذا ربي بزعمكم فلما غاب قال لو كان إلهاً كما تزعمون لما غاب فهو كقوله ‏{‏ذق إنك أنت العزيز الكريم‏}‏ يعني عند نفسك وبزعمك وكما أخبر عن موسى عليه السلام بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً‏}‏ يريد إلهك بزعمك‏.‏

الوجه الرابع‏:‏ إن في هذه الآية إضماراً تقديره يقولون ‏{‏هذا ربي‏}‏ وإضمار القول كثير في كلام العرب ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا‏}‏ أي يقولان ‏{‏ربنا تقبل منا‏}‏ الوجه الخامس‏:‏ إن الله تعالى قال في حقه ‏{‏وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين‏}‏ ثم قال بعده ‏{‏فلما جن عليه الليل‏}‏ والفاء تقتضي التعقيب فدل هذا أن هذه الواقعة كانت بعد أن أراه الله ملكوت السموات والأرض وبعض الإيقان ومن كان معه بهذه المنزلة العالية الشريفة لا يليق بحاله أن يعبد الكواكب ويتخذها رباً‏.‏

فأما الجواب عن قوله‏:‏ ‏{‏لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين‏}‏ فإن الأنبياء عيلهم السلام لم يزالوا يسألون الله التثبيت ومنه قوله ‏{‏واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام‏}‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما أفل‏}‏ يعني غاب والأفول غيبة النيرات ‏{‏قال‏}‏ يعني إبراهيم ‏{‏لا أحب الآفلين‏}‏ يعني لا أحب رباً يغيب ويطلع لأن أمارات الحدوث فيه ظاهرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 80‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ‏(‏77‏)‏ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏78‏)‏ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏79‏)‏ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما رأى القمر بازغاً‏}‏ يعني طالعاً منتشر الضوء ‏{‏قال هذا ربي‏}‏ معناه ما تقدم من الكلام في الكوكب ‏{‏فلما أفل‏}‏ يعني غاب ‏{‏قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين‏}‏ يعني إن لم يثبتني ربي على الهدى وليس المراد انه لم يكن مهتدياً لأن الأنبياء لم يزالوا على الهداية من أول الفطرة وفي الآية دليل على أن الهداية من الله تعالى لأن إبراهيم أضاف الهداية لله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما رأى الشمس بازغة‏}‏ يعني طالعة ‏{‏قال هذا ربي‏}‏ يعني هذا الطالع أو أنه إشارة إلى الضياء والنور لأنه رأى الشمس أضوأ من الكوكب والقمر وقيل إنما قال هذا ولم يقل هذه لأن تأنيث الشمس غير حقيقي فلهذا أتى بلفظ التذكير ‏{‏هذا أكبر‏}‏ يعني من الكوكب والقمر ‏{‏فلما أفلت‏}‏ يعني فلما غابت الشمس ‏{‏قال يا قوم إني برئ مما تشركون‏}‏ يعني أنه لما أثبت إبراهيم عليه السلام بالدليل القطعي أن هذه النجوم ليست بآلهة ولا تصلح للربوبية تبرأ منها وأظهر لقومه أنه برئ مما يشركون ولما أظهر خلاف قومه وتبرأ من شركهم أظهر ما هو عليه من الدين الحق فقال ‏{‏إني وجهت وجهي‏}‏ يعني إني صرفت وجه عبادتي وقصرت توحيدي ‏{‏للذي فطر السموات والأرض‏}‏ يعني للذي خلقهما وأبدعهما ‏{‏حنيفاً‏}‏ يعني مائلاً عن عبادة كل شيء سوى الله تعالى‏.‏ وأصل الحنف‏:‏ الميل، وهو ميل عن طريق الضلالة إلى طريق الاستقامة‏.‏ وقيل‏:‏ الحنيف هو الذي يستقبل الكعبة في صلاته ‏{‏وما أنا من المشركين‏}‏ تبرأ من الشرك الذي كان عليه قومه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وحاجَّه قومه‏}‏ يعني وخاصمه قومه وذلك لما أظهر إبراهيم عليه السلام عيب آلهتهم التي كانوا يعبدونها وأظهر التوحيد لله عز وجل خاصمه قومه وجادلوه في ذلك فقال‏:‏ أتحاجوني في الله‏.‏ يعني تجادلونني في توحيدي لله وقد هداني وقد بين لي طريق الهداية إلى توحيده ومعرفته‏.‏ وقال البغوي‏:‏ لما رجع إبراهيم إلى أبيه وصار من الشباب بحالة تسقط عنه طمع الذابحين وضمه آزر إلى نفسه جعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم يبيعها فيذهب إبراهيم وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه فلا يكتريها أحد فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر فصوب فيه رؤوسها وقال اشربي استهزاء بقومه وبما هم فيه من الضلالة حتى فشا استهزاؤه بها في قومه وأهل قريته حاجه قومه يعني خاصمه وجادله قومه في دينه ‏{‏قال‏}‏ يعني إبراهيم ‏{‏أتحاجّوني في الله وقد هدان‏}‏ يعني إلى توحيده ومعرفته ‏{‏ولا أخاف ما تشركون به‏}‏ وذلك أنهم قالوا له‏:‏ احذر الأصنام فإنا نخاف أن تمسَّك بخبل أو جنون لعيبك إياها فأجابهم بقوله ولا أخاف ما تشركون به فإنها جمادات لا تضر ولا تنفع وإنما يكون الخوف ممن يقدر على لانفع والضر وهو قوله ‏{‏إلا أن يشاء ربي شيئاً‏}‏ يعني لكن أن يشأ ربي شيئاً كان ما يشاء لأنه قادر على النفع والضر وإنما قال إبراهيم ذلك لاحتمال أن الإنسان قد يصيبه في بعض حالاته وأيام عمره ما يكرهه فلو أصابه مكروه نسبوه إلى الأصنام فنفى هذه الشبهة بقوله ‏{‏إلا أن يشاء ربي شيئاً‏}‏ وهذا استثناء منقطع وليس هو من الأول في شيء‏.‏ والمعنى ولكن إن شاء ربي شيئاً كان ‏{‏وسع ربي كل شيء علماً‏}‏ يعني أحاط علمه بكل شيء فلا يخرج شيء عن علمه ‏{‏أفلا تتذكرون‏}‏ يعني أفلا تعتبرون أن هذه الأصنام جمادات لا تضر ولا تنفع وأن الضار هو الذي خلق السموات والأرض ومن فيهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 84‏]‏

‏{‏وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏81‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏82‏)‏ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏83‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏وكيف أخاف ما أشركتم‏}‏ يعني وكيف أخاف الأصنام التي أشركتم بها لأنها جمادات لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع ‏{‏ولا تخافون أنكم أشركتم بالله‏}‏ يعني وأنتم لا تخافون وقد أشركتم بالله وهو من أعظم الذنوب ‏{‏ما لم ينزل به عليكم سلطاناً‏}‏ يعني ما ليس لكم فيه حجة وبرهان ‏{‏فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون‏}‏ يعني يقول من أولى بالأمن من العذاب في يوم القيامة الموحد أم المشرك ‏{‏الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏}‏ وهذا فصل قضاه الله بين إبراهيم وبين قومه يعني أن الذين يستحقون الأمن يوم القيامة هم الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏.‏ وقيل‏:‏ هو من تمام كلام إبراهيم في المحاجَّة لقومه‏.‏ والمعنى‏:‏ إن الذين يحصل لهم الأمن يوم القيامة هم الذين آمنوا يعني آمنوا بالله وحده ولم يشركوا به شيئاً ولم يلبسوا إيمانهم بظلم يعني ولم يخلطوا إيمانهم بشرك ‏(‏ق‏)‏‏.‏

عن ابن مسعود قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏}‏ شق ذلك على المسلمين وقالوا أينا لا يظلم نفسه‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس ذلك إنما هو الشرك ألم تسمعوا قول لقمان لابنه ‏{‏يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لَظلم عظيم‏}‏» وفي رواية ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه وذكره‏.‏ وقيل‏:‏ في معنى قوله ولم يلبس إيمانهم بظلم، يعني‏:‏ ولم يخلطوا إيمانهم بشيء من معاني الظلم وذلك بأن يفعل بعض ما نهى الله عنه أو يترك ما أمر الله به فعلى هذا القول تكون الآية على العموم لأن الله لم يخص معنى من معاني الظلم دون غيره والصحيح أن الظلم المذكور في هذه الآية هو الشرك لما تقدم من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم فسَّر الظلم هنا بالشرك وفي الآية دليل على أن من مات لا يشرك بالله شيئاً كانت عاقبته الأمن من النار لقوله ‏{‏أولئك‏}‏ يعني الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ‏{‏لهم الأمن‏}‏ يوم القيامة من عذاب النار ‏{‏وهم مهتدون‏}‏ يعني إلى سبيل الرشاد‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه‏}‏ يعني ما جرى بين إبراهيم وبين قومه واستدل على حدوث الكوكب والقمر والشمس بالأفول وقيل لما قالوا لإبراهيم إنّا نخاف عليك من آلهتنا لسبك إياها قال أفلا تخافون أنتم منها إذ سويتم بين الصغير والكبير في العبادة أن يغضب الكبير عليكم‏؟‏ وقيل‏:‏ إنه خاصم قومه المشركين فمالوا أي الفريقين أحق بالأمن من يعبد إلهاً واحداً مخلصاً له الدين والعبادة أم من يعبد أرباباً كثيرة فدلوا من يعبد إلهاً واحداً فقضوا على أنفسهم فكانت هذه حجة إبراهيم عليه ‏{‏نرفع درجات من نشاء‏}‏ يعني بالعلم والفهم والعدل والفضيلة كما رفعنا درجات إبراهيم حتى اهتدى إلى محاجَّة قومه‏.‏

وقيل‏:‏ نرفع درجات من نشاء في الدنيا بالنبوة والعلم والحكمة وفي الآخرة بالثواب على الأعمال الصالحة ‏{‏إن ربك حكيم عليم‏}‏ يعني أنه تعالى حكيم في جميع أفعاله عليم بجميع أحوال خلقه لا يفعل شيء إلا بحكمة وعلم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ووهبنا له إسحاق ويعقوب‏}‏ لما أظهر إبراهيم عليه السلام دينه وغلب خصمه بالحجج القاطعة والبراهين القوية والدلائل الصحيحة التي فهمه الله تعالى إياه وهداه إليها عدد الله نعمه عليه وإحسانه إليه بأن رفع درجته في عليين وأبقى النبوة في ذريته إلى يوم الدين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ووهبنا له‏}‏ يعني لإبراهيم إسحاق يعني ابنا لصلبه ويعقوب يعني ابن إسحاق وهو ولد الولد ‏{‏كلاًّ هدينا‏}‏ يعني هدينا جميعهم إلى سبيل الرشاد ووفقناهم إلى طريق الحق والصواب ‏{‏ونوحاً هدينا من قبل‏}‏ يعني من قبل إبراهيم أرشدنا نوحاً ووفقناه للحق والصواب ومنَنّا عليه بالهداية ‏{‏ومن ذريته‏}‏ اختلفوا في الضمير إلى من يرجع فقيل يرجع إلى إبراهيم يعني ومن ذرية إبراهيم ‏{‏داود وسلميان‏}‏ وقيل‏:‏ يرجع إلى نوح وهو اختيار جمهور المفسرين، لأن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور ولأن الله ذكر في جملة هذه الذرية لوطاً وهو ابن أخي إبراهيم ولم يكن من ذريته فثبت بهذا أن هاء الكناية ترجع إلى نوح وقال الزجاج‏:‏ كلا القولين جائز لأن ذكرهما جميعاً قد جرى‏.‏ وداود هو ابن بيشا وكان ممن آتاه الله الملك والنبوة وكذلك سليمان بن داود ‏{‏وأيوب‏}‏ هو أيوب بن أموص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم ‏{‏ويوسف‏}‏ هو ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ‏{‏وموسى‏}‏ هو ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب ‏{‏وهارون‏}‏ هو أخو موسى وكان أكبر منه بسنة ‏{‏وكذلك نجزي المحسنين‏}‏ يعني‏:‏ وكما جزينا إبراهيم على توحيده وصبره على أذى قومه كذلك نجزي المحسنين على إحسانهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 88‏]‏

‏{‏وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏85‏)‏ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏86‏)‏ وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏87‏)‏ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏وزكريا‏}‏ هو ابن آذن بن بركيا ‏{‏ويحيى‏}‏ هو ابن زكريا ‏{‏وعيسى‏}‏ هو ابن مريم بنت عمران ‏{‏والياس‏}‏‏.‏

قال ابن مسعود‏:‏ هو إدريس وله اسمان مثل يعقوب وإسرائيل وقال محمد بن إسحاق‏:‏ هو الياس بن سنا بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران‏.‏ وهذا هو الصحيح لأن أصحاب الأنساب يقولون‏:‏ إن إدريس جد نوح لأن نوحاً بن لامك متوشلخ بن أخنوخ وهو أدريس ولأن الله تعالى نسب الياس في هذه الآية إلى نوح وجعله من ذريته ‏{‏كل من الصالحين‏}‏ يعني أن كل من ذكرنا وسمينا من الصالحين ‏{‏وإسماعيل‏}‏ هو ابن إبراهيم وإنما أخر ذكره إلى هنا لأنه ذكر إسحاق وذكر أولاده من بعده على نسق واحد فلهذا السبب أخر ذكر إسماعيل إلى هنا ‏{‏واليسع‏}‏ هو ابن أخطوب بن العجوز ‏{‏ويونس‏}‏ هو ابن متى ‏{‏ولوطاً‏}‏ هو ابن أخي إبراهيم‏:‏ ‏{‏وكلاًّ فضلنا على العالمين‏}‏ يعني على عالمي زمانهم‏.‏ ويستدل بهذه الآية من يقول إن الأنبياء أفضل من الملائكة لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى فيدخل فيه الملك فيقتضي أن الأنبياء أفضل من الملائكة‏.‏

واعلم أن الله تعالى ذكر هنا ثمانية نبياً من الأنبياء عليهم السلام من غير ترتيب لا بحسب الزمان ولا بحسب الفضل، لأن الواو لا تقتضي الترتيب ولكن هنا لطيفة أوجبت هذا الترتيب وهي أن الله تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء عليهم السلام بنوع من الكرامة والفضل، فذكر أولاً نوحاً وإبراهيم وإسحاق ويعقوب لأنهم أصول الأنبياء وإليهم ترجع أنسابهم جميعاً ثم من المراتب المعتبرة بعد النبوة الملك والقدرة والسلطان قد أعطى الله داود وسليمان من ذلك حظاً وافراً من المراتب‏:‏ الصبر عند نزول البلاء والمحن والشدائد وقد خص الله بهذه أيوب عليه السلام ثم عطف على هاتين المرتبتين من جمع بينهما وهو يوسف عليه السلام فإنه صبر على البلاء والشدة إلى أن أعطاه الله ملك مصر مع النبوة ثم من المراتب المعتبرة في تفضيل الأنبياء عليهم السلام كثرة المعجزات وقوة البراهين وقد خص الله تعالى موسى وهارون من ذلك بالحظ الوافر ثم من المراتب المعتبرة الزهد في الدنيا والإعراض عنها وقد خص الله بذلك زكريا ويحيى وعيسى والياس عليهم السلام ولهذا السبب وصفهم بأنهم من الصالحين ثم ذكر الله من بعد هؤلاء الأنبياء من لم يبق له أتباع ولا شريعة وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط فإذا اعتبرنا هذه اللطيفة على هذا الوجه كان هذا الترتيب من أحسن شيء يذكر والله أعلم بمراده وأسرار كتابه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن آبائهم‏}‏ يعني ومن آباء الذين سميناهم ومَن هنا للتبعيض لأن من آباء بعضهم من لم يكن مسلماً ‏{‏وذرياتهم‏}‏ يعني ومن ذرياتهم أي بعضهم لأن عيسى ويحيى لم يكن لهما ولد وكان في ذرية بعضهم من هو كافر كابن نوح ‏{‏وإخوانهم‏}‏ يعني ومن إخوانهم والمعنى أن الله تعالى وفق من آباء المذكورين ومن أخوانهم وذرياتهم للهداية وخالص الدين وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واجتبيناهم‏}‏ يعني اخترناهم واصطفيناهم ‏{‏وهديناهم‏}‏ يعني وأرشدناهم ‏{‏إلى صراط مستقيم‏}‏ أي إلى دين الحق ‏{‏ذلك هدى الله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ذلك دين الله الذي كان عليه هؤلاء الأنبياء‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بهدى الله معرفة الله وتنزيهه عن الشركاء والأضداد والأنداد ‏{‏يهدي به من يشاء من عباده‏}‏ يعني يوفق من يشاء من عباده ويرشده إلى دينه وطاعته وخلع الأضداد والشركاء ‏{‏ولو أشركوا‏}‏ يعني هؤلاء الذين سميناهم ‏{‏لحبط‏}‏ يعني لبطل وذهب ‏{‏عنهم ما كانوا يعملون‏}‏ من الطاعات قبل ذلك لأن الله تعالى لا يقبل مع الشرك من الأعمال شيئاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 91‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ‏(‏89‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ‏(‏90‏)‏ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة‏}‏ يعني أولئك الذين سميناهم من الأنبياء أعطيناهم الكتب التي أنزلناها عليهم وآتيناهم العلم والفهم وشرفناهم بالنبوة وإنما قدم ذكر الكتاب والحكمة على النبوة وإن كانت النبوة هي الأصل لأن منصب النبوة أشرف المراتب والمناصب فذكروا أولاً الكتاب والحكم لأنما يدلان على النبوة ‏{‏فإن يكفر بها هؤلاء‏}‏ يعني فإن يجحد بدلائل التوحيد والنبوة كفار قريش ‏{‏فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هم الأنصار وأهل المدينة‏.‏ وقيل‏:‏ هم المهاجرون والأنصار وقال الحسن وقتادة‏:‏ هم الأنبياء الثمانية عشر الذين تقدم ذكرهم واختاره الزجاج قال‏:‏ والدليل عليه قوله ‏{‏أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده‏}‏ وقال رجاء العطاردي‏:‏ هم الملائكة وفيه بعد لأن اسم القوم لا ينطلق إلا على بني آدم وقيل هم الفرس‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ كل من لم يكفر فهو منهم سواء كان ملكاً أو نبياً أو من الصحابة أو التابعين وفي الآية دليل على أن الله تعالى ينصر نبيه صلى الله عليه وسلم ويقوي دينه ويجعله عالياً على الأديان كلها وقد جعل ذلك فهو إخبار عن الغيب‏.‏‏.‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين هدى الله‏}‏ يعني النبيين الذين تقدم ذكرهم لأنهم هو المخصوصون بالهداية ‏{‏فبهداهم اقتده‏}‏ إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعني فبشرائعهم وسننهم اعمل وأصل الاقتداء في اللغة طلب موافقة الثاني للأول في فعله‏.‏ وقيل أمره أن يقتدي بهم في أمر الدين الذي أمرهم أن يجمعوا عليه وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن جميع النقائص التي لا تليق بجلاله في الأسماء والصفات والأفعال‏.‏ وقيل‏:‏ أمره الله أن يقتدي بهم في جميع الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية والصفات الرفيعة الكاملة مثل‏:‏ الصبر على أذى السفهاء، والعفو عنهم‏.‏ وقيل‏:‏ أمره أن يقتدي بشرائعهم إلا ما خصه دليل آخر فعلى هذا القول يكون في الآية دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا‏.‏

‏(‏فصل‏)‏

احتج العلماء بهذه الآية على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏ بيانه أن جميع خصال الكمال وصفات الشرف وكانت متفرقة فيهم فكان نوح صاحب احتمال على أذى قومه، وكان إبراهيم صاحب كرم وبذل مجاهدة في الله عز وجل، وكان إسحاق ويعقوب من أصحاب الصبر على البلاء والمحن، وكان داود عليه السلام وسليمان من أصحاب الشكر على النعمة، قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏اعملوا آل داود شكراً‏}‏ وكان أيوب صاحب صبر على البلاء، قال الله فيه ‏{‏إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب‏}‏ وكان يوسف قد جمع بين الحالتين، يعني‏:‏ الصبر والشكر، وكان موسى صاحب الشريعة الظاهرة والمعجزات الباهرة، وكان زكريا ويحيى وعيسى وإلياس من أصحاب الزهد في الدنيا، وكان إسماعيل صاحب صدق وكان يونس صاحب تضرع وإخبات ثم إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم وجمع له جميع الخصال المحمودة المتفرقة فيهم فثبت بهذا البيان أنه صلى الله عليه وسلم كان أفضل الأنبياء لما اجتمع فيه من هذه الخصال التي كانت متفرقة في جميعهم والله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أسألكم عليه أجراً‏}‏ يعني‏:‏ قل يا محمد لا أطلب على تبليغ الرسالة جعلاً قيل لما أمره الله تعالى بالاقتداء بالنبيين وكان من جملة هداهم عدم طلب الأجر على إيصال الدين وإبلاغ الشريعة لا جرم اقتدى بهم فقال‏:‏ لا أسألكم عليه أجراً ‏{‏إن هو‏}‏ يعني ما هو يعني القرآن ‏{‏إلا ذكرى للعالمين‏}‏ يعني أن القرآن موعظة وذكرى لجميع العالم من الجن والإنس وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى جميع الخلق من الجن والإنس وإن دعوته عمَّت جميع الخلائق‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وما قدروا الله حق قدره‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لما عظموا الله حق عظمته وعنه أن معناه ما آمنوا أن الله على شيء قدير‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ ما وصفوا الله حق وصفه‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ ما عرفوا الله حق معرفته‏.‏ يقال‏:‏ قدر الشيء إذا حزره وسبره وأراد ان يعلم مقداره يقال قدره يقدره بالضم قدراً ثم يقال لمن عرف شيئاً هو يقدره قدره وإذا لم يعرفه بصفاته يقال فيه إنه لا يقدر قدره فقوله ‏{‏وما قدروا الله حق قدره‏}‏ يصح فيه جميع الوجوه المذكورة في معناه ‏{‏إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء‏}‏ يعني الذين قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ما قدروا الله حق قدره ولا عرفوه حق معرفته إذ لو عرفوه حق معرفته لما قالوا هذه المقالة، ثم اختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآية على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها نزلت في كفار قريش وهذا على قول من يقول إن جميع السورة مكية وهو قول السدي‏.‏ ويروي ذلك عن مجاهد وصححه الطبري قال‏:‏ لأن من أول السورة إلى هذا الموضع هو خبر عن المشركين من عبدة الأصنام وكان قوله ‏{‏وما قدروا الله حق قدره‏}‏ موصولاً بذلك غير مفصول عنه فلا يكون قوله إذ قالوا‏:‏ ‏{‏ما أنزل الله على بشر من شيء‏}‏ خبراً عن غيرهم وأورد فخر الدين الرازي على هذا القول إشكالاً وهو أن كفار قريش ينكرون نبوة جميع الأنبياء فكيف يمكن إلزامهم بنبوة موسى وأيضاً فما بعد هذه الآية لا يليق بكفار قريش إنما يليق بحال اليهود وأجاب عنه بأن كفار قريش كانوا مختلطين باليهود وقد سمعوا منهم أن موسى جاءهم بالتوراة وبالمعجزات الباهرات وإنما أنكر كفار قريش نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيمكن إلزامهم بقوله ‏{‏قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى‏}‏ وأجاب عن كون سياق الآية لا يليق إلا بحال اليهود بأن كفار قريش واليهود لما كانوا مشتركين في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يبعد أن بعض الآية يكون خطاباً لكفار قريش وبعها خطاباً لليهود‏.‏

والقول الثاني‏:‏ في سبب نزول هذه الآية وهو قول جمهور المفسرين أنها نزلت في اليهود وهذا على قول من يقول‏:‏ إن هذه الآية نزلت بالمدينة وأنها من الآيات المدنيات التي في السور المكية‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت سورة الأنعام بمكة إلا ست آيات منها قوله‏:‏ ‏{‏وما قدروا الله حق قدره‏}‏ فإنها نزلت بالمدينة ثم اختلف القائلون بهذا القول في اسم من نزلت هذه الآية فيه فقال سعيد بن جبير‏:‏ جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى أما تجدون في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين وكان حبراً سميناً فغضب‏.‏ وقال‏:‏ والله ما أنزل الله على بشر من شيء فقال أصحابه الذين معه ويحك ولا على موسى فقال والله ما أنزل الله على بشر من شيء فأنزل الله ‏{‏وما قدروا الله حق قدره‏}‏ ‏{‏إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء‏}‏ ‏{‏قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى‏}‏ نوراً وهدى للناس الآية‏.‏ قال البغوي‏:‏ وفي القصة أن مالك بن الصيف لما سمعت اليهود منه تلك المقالة عتبوا عليه وقالوا‏:‏ أليس الله أنزل التوراة على موسى فلمَ قلت ما أنزل الله على بشر من شيء‏؟‏ فقال مالك بن الصيف‏:‏ أغضبني محمد فقلت ذلك‏.‏ فقالوا له‏:‏ وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق‏؟‏ فنزعوه عن الحبرية وجعلوا مكانه كعب الأشرف‏.‏ وقال السدي‏:‏ لما نزلت هذه الآية في فنحاص بن عازوراء اليهودي وهو القائل هذه المقالة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ قالت اليهود يا محمد أنزل الله عليك كتاباً‏؟‏ قال‏:‏ نعم فقالوا‏:‏ والله ما أنزل الله من السماء كتاباً فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وما قدروا الله حق قدره‏}‏ ‏{‏إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء‏}‏ ‏{‏قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى‏}‏ الآية وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتب‏؟‏ فقالوا يا أبا القاسم ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحاً يحملونها من عند الله فأنزل الله ‏{‏يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء‏}‏ الآية التي في سورة النساء فلما حدثهم بأعمالهم الخبيثة جثا رجل منهم وقال‏:‏ ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئاً فانزل الله‏:‏ ‏{‏وما قدروا الله حق قدره‏}‏ إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء وأورد الرازي على هذا القول إشكالاً أيضاً وهو أنه قال‏:‏ إن اليهود مقرون بإنزال التوراة على موسى فكيف يقولون ما أنزل الله على بشر من شيء مع اعترافهم بإنزال التوراة ولم يجب عن هذا الإشكال بشيء وأجيب عنه بأن مراد اليهود إنكار إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فقط ولهذا ألزموا بملا لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى‏}‏ أي‏:‏ قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين أنكروا إنزال القرآن عليك بقولهم ما أنزل الله على بشر من شيء من أنزل التوراة على موسى وفيه هذا الإلزام توبيخ اليهود بسوء جهلهم وإقدامهم على إنكار الحق الذي لا ينكر ‏{‏نوراً وهدى للناس‏}‏ يعني التوراة ضياء من ظلمة الضلالة وبياناً يفرق بين الحق والباطل من دينهم وذلك قبل أن تبدل وتغير ‏{‏تجعلونه قراطيس‏}‏ يكتبونه في قراطيس مقطعة ‏{‏تبدونها‏}‏ يعني القراطيس المكتوبة ‏{‏وتخفون كثيراً‏}‏ يعني ويخفون كثيراً مما كتبوه في القراطيس وهو ما عندهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في التوراة ومما اخفوه أيضاً آية الرجم وكانت مكتوبة عندهم في التوراة ‏{‏وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم‏}‏ أكثر المفسرين على أن هذا خطاب لليهود ومعناه‏:‏ أنكم علمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم من قبل‏.‏

قال الحسن‏:‏ جعل لهم علم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فضيعوه ولم ينتفعوا به‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علمهم على لسان نيبه صلى الله عليه وسلم ‏{‏قل الله‏}‏ هذا راجع إلى قوله‏:‏ ‏{‏قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى‏}‏ فإن أجابوك يا محمد وإلا فقل أنت الله الذي أنزله‏:‏ ‏{‏ثم ذرهم في خوضهم يلعبون‏}‏ يعني‏:‏ دعهم يا محمد فيما هم فيه يخوضون من باطلهم وكفرهم بالله‏.‏ ومعنى يلعبون‏:‏ يستهزؤون ويسخرون‏.‏ وقيل‏:‏ معناه يا محمد إنك إذا أقمت الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والإنذار هذا المبلغ العظيم فحينئذ لم يبق عليك من أمرهم شيء فذرهم فيما هم فيه من الخوض واللعب وفيه وعيد وتهديد للمشركين‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هذا منسوخ بآية السيف وفيه بُعد لأنه مذكور لأجل التهديد والوعيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 93‏]‏

‏{‏وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏92‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مبارك‏}‏ يعني‏:‏ وهذا القرآن كتاب أنزلناه من عندنا عليك يا محمد كثير الخير والبركة دائم النفع يبشر المؤمنين بالثواب والمغفرة ويزجر عن القبيح والمعصية‏.‏ وأصل البركة‏:‏ النماء والزيادة وثبوت الخير ‏{‏مصدق الذي بين يديه‏}‏ يعني من الكتب الإلهية المنزلة من السماء على الأنبياء عين أنه موافق لما في التوراة والإنجيل وسائر الكتب، لأنها اشتملت جميعها على التوحيد والتنزيه لله من كل عيب ونقيصه وتدل على البشارة والنذارة فثبت بذلك كون القرآن مصدقاً لجميع الكتب المنزلة ‏{‏ولتنذر‏}‏ قرئ بالتاء يعني ولتنذر يا محمد وبالياء ومعناه ولينذر الكتاب ‏{‏أم القرى‏}‏ يعني مكة وفيه حذف تقديره ولتنذر أهل القرى وسميت مكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها‏.‏ قاله ابن عباس‏:‏ وقيل‏:‏ لأنها أقدم القرى وأعظمها بركة‏.‏ وقيل‏:‏ لأنها قبلة أهل الأرض ‏{‏ومن حولها‏}‏ يعني جميع البلاد والقرى التي حولها شرقاً وغرباً ‏{‏والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به‏}‏ يعني‏:‏ والذين يصدقون بقيام الساعة وبالمعاد والبعث بعد الموت يصدقون بها الكتاب وأنه منزل من عند الله عز وجل وقيل ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك أن الذي يؤمن بالآخرة يؤمن بالوعد والوعيد والثواب والعقاب ومن كان كذلك فإنه يرغب في تحصيل الثواب ورد العقاب عنه وذلك لا يحصل إلا بالنظر التام فإذا نظر وتفكر علم بالضرورة أن دين محمد أشرف الأديان وشريعته أعظم الشرائع ‏{‏وهم على صلواتهم يحافظون‏}‏ يعني يداومون عليها في أوقاتها‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الإيمان بالآخرة يحمل على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك يحمل على المحافظة على الصلاة، وفائدة تخصيص الصلاة بالذكر دون سائر العبادات، التنبيه على أنها أشرف العبادات بعد الإيمان بالله تعالى، فإذا حافظ العبد عليها يكون محافظاً على جميع العبادات والطاعات قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً‏}‏ يعني ومن أعظم خطأ وأجهل فعلاً ممن اختلق على الله كذباً فزعم أن الله بعثه نبياً وهو في زعمه كذاب مبطل ‏{‏أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء‏}‏ قال قتادة‏:‏ نزلت هذه الآية في مسيلمة الكذاب بن ثمامة‏.‏ وقيل مسيلمة بن حبيب من بني حنيفة وكان صاحب نيرجات وكهانة وسجع ادعى النبوة باليمن وزعم أن الله أوحى إليه وكان قد أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رسولين‏:‏ فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أتشهدان أن مسيلمة نبي‏؟‏ قالا‏:‏ نعم‏.‏ فقال لهما‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ‏(‏ق‏)‏‏.‏

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «بينا أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض فوضع في يدي سواران من ذهب فكبرا عليّ وأهماني فأوحي إلي أن انفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة»

وفي لفظ الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رأيت في المنام كأن في يدي سوارين فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي، يقال لأحدهما‏:‏ مسيلمة صاحب اليمامة والعنسي صاحب صنعاء» قوله فأوحى إليّ أن أنفخهما يروى بالخاء المهملة ومعناه الرمي والدفع من نفخت الدابة برجلها إذا دفعت ورمحت ويروى بالخاء المعجمة من النفخ يريد أنه نفخهما فطارا عنه وهو قريب من الأول فأما مسيلمة الكذاب فإنه ادعى النبوة باليمامة من اليمن وتبعه قوم من بني حنيفة وكان صاحب نيرجات فاغترّ قومه بذلك وقتل مسيلمة‏.‏ الكذاب في زمن خلافة أبي بكر الصديق قتله وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب وكان وحشي يقول‏:‏ قتلت خير الناس يعني حمزة وقتلت شر الناس يعني مسيلمة وأما الأسود العنسي بالنون فهو عبهلة بن كعب وكان يقال له ذو الحمار ادعى النبة باليمن في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقتل والنبي صلى الله عليه وسلم حي لم يمت وذلك قبل موته بيومين وأخر أصحابه بقتله وقتله فيروز الديلمي فقال النبي صلى الله عليه وسلم فاز فيروز يعني بقتلة الأسود العنسي فمن قال إن هذه الآية يعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء‏}‏ انزلت في مسيلمة الكذاب والأسود العنسي يقول‏:‏ إن هذه الآية مدنية نزلت بالمدينة وهو قول لبعض علماء التفسير تقدم ذكره في أول السورة ومن قال إن هذه الآية مكية وقال‏:‏ إنها نزلت في شأنهما يقول إنها خبر عن غيب قد ظهر ذلك فيما بعد والله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله‏}‏ قال السدي‏:‏ نزلت في عبد الله بن أبي سرح القرشي وكان قد أسلم وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا أملى عليه سمعياً بصيراً كتب عليماً حكيماً وإذا أملى عليه عليماً حكيماً كتب غفوراً رحيماً فلما نزلت ‏{‏ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين‏}‏ أملاها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال تبارك أحسن الخالقين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتبها فهكذا نزلت فشك عبد الله بن أبي سرح وقال‏:‏ لئن كان محمد صادقاً فقد أوحي إلي مثل ما أوحي إليه فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ثم رجع عبد الله بعد ذلك إلى الإسلام فأسلم قبل فتح مكة والنبي صلى الله عليه وسلم نازل بمر الظهران وقال ابن عباس نزل قوله ومن قال‏:‏ سأنزل مثل ما أنزل الله في المستهزئين وهو جواب لقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا قال العلماء وقد دخل في حكم هذه الآية كل من افترى على الله كذباً في ذلك الزمان وبعده لأنه لا يمنع خصوص السبب من عموم الحكم‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت‏}‏ يعني ولو ترى يا محمد حال هؤلاء الظالمين إذ أنزل بهم الموت لرأيت أمراً عظيماً وغمراته شدائده وسكراته وغمرة كل شيء معظمة وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها ثم وضعت في موضع الشدائد والمكاره ‏{‏والملائكة باسطوا أيديهم‏}‏ يعني بالعذاب يضربون وجوههم وأدبارهم وقيل‏:‏ باسطوا أيديهم لقبض أرواحهم ‏{‏أخرجوا أنفسكم‏}‏ يعني يقولون لهم أخرجوا أنفسكم‏.‏

فإن قلت‏:‏ إنه لا قدرة لأحد على إخراج روحه من بدنه فما فائدة هذا الكلام‏.‏

قلت‏:‏ معناه يقولون لهم أخرجوا أنفسكم كرهاً لأن المؤمن يحب لقاء الله بخلاف الكافر وقيل معناه يقولون لهم خلصوا أنفسكم من هذا العذاب أن قدرتم على ذلك فيكون هذا القول توبيخاً لهم لأنهم لا يقدرون على خلاص أنفسهم من العذاب في ذلك الوقت ‏{‏اليوم تجزون عذاب الهون‏}‏ يعني الهوان ‏{‏بما كنتم تقولون على الله غير الحق‏}‏ يعني ذلك العذاب الذي تجزونه بسبب ما كنتم تقولون على الله غير الحق ‏{‏وكنتم عن آياتنا تستكبرون‏}‏ يعني وبسبب ما كنتم تتعظمون عن الإيمان بالقرآن ولا تصدقونه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جئتمونا فرادى‏}‏ يعني وحداناً لا مال معكم ولا زوج ولا ولد ولا خدم وهذا خبر من الله عز وجل عن حال الكافرين يوم القيامة وكيف يحشرون إليه ماذا يقول لهم في ذلك اليوم وفي قوله للكافرين ولقد جئتمونا فرادى تقريع وتوبيخ لهم لأنهم صرفوا هممهم في الدنيا إلى تحصيل المال والولد والجاه وأفنوا أعمارهم في عبادة الأصنام فلم يغن عنهم كل ذلك شيئاً يوم القيامة فبقوا فرادى عن كل ما حصلوه في الدنيا ‏{‏كما خلقناكم أول مرة‏}‏ يعني جئتمونها حفاة عراة غرلاً يعني قلفاً كما ولدتهم أمهاتهم في أول مرة في الدنيا لا شيء عليهم ولا معهم ‏(‏ق‏)‏‏.‏

عن ابن عباس قال‏:‏ قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال‏:‏ «أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً» ‏{‏كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين‏}‏ ‏(‏ق‏)‏ عن عائشة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «تحشر الناس حفاة غراة غرلاً» قالت عائشة‏:‏ فقلت الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض‏؟‏ قال «الأمر أشد من أن يهمهم ذلك» روى الطبري بسنده عن عائشة أنها قرأت قول الله عز وجل ‏{‏ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة‏}‏ فقالت‏:‏ يا رسول الله واسوأتاه إن الرجال والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لكل امرئ منهم يومئذ شيء يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض» وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم‏}‏ يعني وتركتم الذي أعطيناكم وملكناكم من الأموال والأولاد والخدم والخول وكل ما أعطى الله العبد خوله فيه من المال والعبيد وراء ظهوركم يعني في الدنيا ‏{‏وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء‏}‏ يعني أن المشركين زعموا أنهم إنما عبدوا هذه الأصنام «لأنها تشفع لهم عند الله يوم القيامة لأنها شركاء الله تعالى الله عن ذلك فإذا كان يوم القيامة وبخ الله المشركين وقرعهم بهذه الآية ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد تقطع بينكم‏}‏ قرئ بنصب النون من بينكم ومعناه لقد تقطع ما بينكم من الوصل أو يكون معناه لقد تقطع الأمر بينكم وقرئ بينكم برفع النون، ومعناه لقد تقطع وصلكم والبين من الأضداد يكون وصلاً ويكون هجراً ‏{‏وضل عنكم ما كنتم تزعمون‏}‏ يعني‏:‏ وذهب وبطل ما كنتم تكذبون في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 98‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏95‏)‏ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏96‏)‏ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏97‏)‏ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الله فالق الحب والنوى‏}‏ لما تقدم الكلام على تقرير التوحيد وتقرير النبوة، أردفه بذكر الدلائل على كمال قدرته وعلمه وحكمته تنبيهاً بذلك على أن المقصود الأعظم هو معرفة الله سبحانه وتعالى بجميع صفانه وأفعاله وأنه مبدع الأشياء وخالقها ومن كان كذلك كان هو المستحق للعبادة لا هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها وتعريقاً منه خطأ ما كانوا عليه من الإشراك الذي كانوا عليه‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الذي يستحق العبادة دون غيره هو الله الذي فلق الحب عن النبات والنواة عن النخلة‏.‏ وفي معنى فلق قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه بمعنى خلق ومعنى الآية على هذا القول‏:‏ «أن الله خالق الحب والنوى» وهو قول ابن عباس في رواية العوفي عنه وبه‏.‏ قال الضحاك ومقاتل‏:‏ قال الواحدي‏:‏ ذهبوا بفالق مذهب فاطر‏.‏ وأنكر الطبري هذا القول وقال لا يعرف في كلام العرب فلق الله الشيء بمعنى خلق‏.‏ ونقل الأزهري عن الزجاج جوازه فقال‏:‏ وقيل الفلق الخلق، وإذا تأملت الخلق، تبين لك أن أكثره عن انفلاق ومعنى هذا الكلام أن جميع الأشياء كانت قبل الوجود في العدم فلما أوجدها الله تعالى وأخرجها من العدم إلى الوجود فكأنه فلقها وأظهرها‏.‏

والقول الثاني‏:‏ وهو قول الأكثرين أن الفلق هو الشق ثم اختلفوا في معناه على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ وهو مروي عن ابن عباس قال‏:‏ فلق الحبة عن السنبلة والنواة عن النخلة وهو قول الحسن والسدي وابن زيد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ بشق الحبة اليابسة فيخرج منها ورقاً أخضر‏.‏

والقول الثاني‏:‏ وهو قول مجاهد إنه الشقان اللذان في الحب والنوى والحب هو الذي ليس له نوى كالحنطة والشعير والأرز وما أشبه ذلك والنوى جمع نواة وهي ما كان على ضد الحب كالرطب والخوخ والمشمش وما أشبه ذلك ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏فالق الحب والنوى‏}‏ أنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة ثم مر على ذلك قدر من الزمان أظهر الله تبارك وتعالى من تلك الحبة ورقاً أخضر ثم يخرج من ذلك الورق سنبلة يكون فيها الحب ويظهر من النواة شجرة صاعدة في الهواء وعروقاً ضاربة في الأرض فسبحان من أوجد جميع الأشياء بقدرته وإبداعه وخلقه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ في رواية عنه‏:‏ يخرج من النطفة بشراً حياً ويخرج النطفة الميتة من الحي وهذا قول الكلبي ومقاتل‏.‏ قال الكلبي‏:‏ يخرج النسمة الحية من النطفة الميتة ويخرج الفرخة من البيضة ويخرج النطفة الميتة والبيضة الميتة من الحي‏.‏ وقال ابن عباس في رواية أخرى‏:‏ يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن فجعل الإيمان بمنزلة الحياة والكفر بمنزلة الموت وهذا قول الحسن‏.‏

وقيل‏:‏ معناه يخرج الطائع من العاصي والعاصي من الطائع‏.‏ وقال السدي‏:‏ يخرج النبات من الحب والحب من النبات وهذا اختيار الطبري لأنه قال عقب قوله ‏{‏إن الله فالق الحب والنوى‏}‏‏.‏

فإن قلت كيف قال ومخرج الميت من الحي بلفظ اسم الفاعل بعد قوله ‏{‏يخرج الحي من الميت‏}‏ وما السبب في عطف الاسم على الفعل‏.‏

قلت‏:‏ قوله ‏{‏ومخرج الميت من الحي‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏فالق الحب والنوى‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يخرج الحي من الميت‏}‏ كالبيان والتفسير لقوله ‏{‏فالق الحب والنوى‏}‏ لأن فلق الحب والنوى واليابس وإخراج النبات والشجر منه من جنس إخراج الحي من الميت لأن النامي من النبات في حكم الحيوان وقوله ‏{‏ذلكم الله‏}‏ يعني ذلكم الله المدبر الخالق الصانع لهذه الأشياء المحيي المميت لها ‏{‏فأنى تؤفكون‏}‏ يعني فأنى تصرفون عن الحق فتعبدون غير الله الذي هو خالق الأشياء كلها وفيه دليل أيضاً على صحة البعث بعد الموت لأن القادر على إخراج البدن من النطفة قادر على إخراجه من التراب للحساب قول تعالى‏:‏ ‏{‏فالق الإصباح‏}‏ أي شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده والإصباح مصدر سمي به الصبح‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الإصباح والصبح واحد وهما أول النهار‏.‏

فإن قلت ظاهر الآية يدل على أنه تعالى فلق الصبح، والظلمة هي التي تنلفق بالصبح فما معنى ذلك‏؟‏ قلت ذكر العلماء فيه وجوهاً‏:‏

الأول‏:‏ أن يكون المراد فالق ظلمة الصبح وذلك لأن الصبح صبحان‏:‏ فالصبح الأول هو البياض المستطيل الصاعد في الألفق كذنب السرحان وهو الذئب ثم تعقبه ظلمة بعد ذلك ويسمى هذا الصبح الفجر الكاذب لأنه يبدو في الأفق الشرقي ثم يضمحل ويذهب ثم يطلع بعده الصبح الثاني، وهو الضوء المستطير في جميع الأفق الشرقي ويسمى الفجر الصادق لأنه ليس بعده ظلمة والحاصل من هذا أن يكون المعنى‏:‏ فالق ظلمة الصبح الأول بنور الصبح الثاني‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أنه تعالى كما شق ظلمة الليل بنور الصباح فكذلك يشق نور الصبح بضياء النهار فيكون معنى قوله‏:‏ ‏{‏فالق الإصباح‏}‏ أي فالق الصباح بنورالنهار‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن يراد فالق ظلمة الإصباح وهي الغبش في آخر الليل الذي يلي الصبح‏.‏

الوجه الرابع‏:‏ أن يكون المعنى فالق الإصباح الذي هو عمود الفجر إذا انصدع الفجر وانفلق وسمي الفجر فلقاً بمعنى مفلوق‏.‏

الوجه الخامس‏:‏ الفلق بمعنى الخلق يعني خالق الإصباح‏.‏ وعلى هذا القول يزول الإشكال‏.‏ والصبح هو الضوء الذي يبدو أول النهار‏.‏ والمعنى أنه تعالى مبدي ضوء الصبح وخالقه ومنوره‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعل الليل سكناً‏}‏ السكن ما سكنت إليه واسترحت به‏.‏ يريد أن الناس يسكنون في الليل سكون راحة لأن الله جعل الليل لهم كذلك‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إن كل ذي روح يسكن فيه لأن الإنسان قد أتعب نفسه في النهار فاحتاج إلى زمان يستريح فيه ويسكن عن الحركة وذلك هو الليل ‏{‏والشمس والقمر حسباناً‏}‏ يعني أنه تعالى قدر حركة الشمس والقمر في الفلك بحسبان معين‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ يجريان إلى أجل جعل لهما يعني عدد الأيام والشهور والسنين وقال الكلبي منازلهما بحسبان لا يجاوزانه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما تقدم ذكره في هذه الآية من الأشياء التي خلقها بقدرته وكمال علمه وهو المراد بقوله ‏{‏تقدير العزيز العليم‏}‏ فالعزيز إشارة إلى كمال قدرته والعليم إشارة إلى كمال علمه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر‏}‏ جعل هنا بمعنى خلق يعني والله الذي خلق لكم هذه النجوم أدلة لتهتدوا بها إذا ضللتم الطريق وتحيرتم فيه، فامتنّ الله على عباده بأن جعل لهم النجوم ليهتدوا بها في المسالك والطرق في البر والبحر إلى حيث يريدون ويستدلون بالنجوم أيضاً على القبلة فيستدلون على ما يريدون في النهار بحركة الشمس وفي الليل بحركة الكواكب ومن منافعها أيضاً أنه تعالى خلقها زينة للسماء ورجوماً للشياطين كما قال‏:‏ ‏{‏ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين‏}‏ ‏{‏قد فصلنا الآيات‏}‏ يعني قد بينّ الآيات الدالة على توحيدنا وكمال قدرتنا ‏{‏لقوم يعلمون‏}‏ أن ذلك مما يستدل به على وجود الصانع المختار وكمال علمه وقدرته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة‏}‏ يعني والله الذي ابتدأ خلقكم أيها الناس من آدم عليه السلام فهو أبو البشر كلهم وحواء مخلوقة منه عيسى أيضاً لأن ابتداء خلقه من مريم وهي من بنات آدم فثبت أن جميع الخلق من آدم عليه السلام ‏{‏فمستقر ومستودع‏}‏ قرئ فمستقر بكسر القاف وفتحها‏.‏ يقال‏:‏ قر في مكانه واستقر فمن كسَر القاف قال‏:‏ المستقر بمعنى القارّ‏.‏ والمعنى‏:‏ منكم مستقر يعني في الأرحام‏.‏ ومن فتح القاف جعله مكاناً فالمستقر نفسه المقر فيكون المعنى لكم مقر‏.‏

وأما المستودع فهو مثل أودع فيجوز أن يكون اسماً للإنسان الذي استودع ذلك المكان ويجوز أن يكون المكان نفسه‏.‏

فمن قرأ فمستقر بفتح القاف جعل المستودع مكاناً، والمعنى‏:‏ فلكم مكان استقرار ومكان استيداع ومن كسر القاف جعل المعنى منكم مستقر ومنكم مستودع يعني منكم من استقر ومنكم من استودع والفرق بين المستقر والمستودع أن المستقر أقرب إلى الثبات من المستودع، لأن المستقر من القرار والمستودع معرض لأن يرد‏.‏

ولهذا اختلفت عبارات المفسرين في معنى هذين اللفظين فروي عن ابن عباس أنه قال المستقر في أرحام الأمهات والمستودع في أصلاب الآباء ثم قرأ ‏{‏ونقر في الأرحام ما نشاء‏}‏ ويؤيد هذا القول أن النطفة لا تبقى في صلب الأب زماناً طويلاً والجنين يبقى في بطن الأم زماناً طويلاً، ولما كان المكث في بطن الأم أكثر من صلب الأب حمل المستقر على الرحم والمستودع على الصلب‏.‏

وروي عنه أنه قال‏:‏ بالعكس يعني أن المستقر صلب الأب والمستودع رحم الأم‏.‏ ووجه هذا القول، أن النطفة حصلت في صلب الأب قبل رحم الأم فوجب حمل المستقر على الصلب والمستودع على الرحم‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ المستقر في الرحم إلى أن يولد والمستودع في القبر إلى أن يبعث وقال مجاهد‏:‏ المستقر على ظهر الأرض في الدنيا لقوله‏:‏ ‏{‏ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين‏}‏ والمستودع عند الله في الآخرة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ المستقر في القبر والمستودع في الدنيا وكان يقول يا ابن آدم أنت مستودع في أهلك إلى أن تلحق بصاحبك يعني القبر وقيل المستودع في القبر والمستقر إما في الجنة والنار، لأن المقام فيهما يقتضي الخلود والتأبيد ‏{‏قد فصلنا الآيات‏}‏ قد بينّا الدلائل الدالة على التوحيد بالبراهين الواضحة والحجج القاطعة ‏{‏لقوم يفقهون‏}‏ يعني لقوم يفهمون عن الله آياته ودلائلة الدالة على توحيده لأن الفقه هو الفهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وهو الذي أنزل من السماء ماء‏}‏ يعني المطر وقيل إن الله ينزل المطر من السماء إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض ‏{‏فأخرجنا به‏}‏ يعني بالماء أنزلناه من السماء ‏{‏نبات كل شيء‏}‏ يعني كل شيء ينبت وينمو من جميع أصناف النبات، وقيل معناه أخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء غذاء كل شيء من‏:‏ الأنعام والبهائم والطير والوحش وأرزاق بني آدم وأقواتهم مما يتغذون به فينبتون عليه وينمون ‏{‏فأخرجنا منه خضراً‏}‏ يريد أخضر مثل عور وأعور‏.‏ والأخضر هو جميع الزروع والبقول الرطبة ‏{‏نخرج منه حباً متراكباً‏}‏ يعني‏:‏ يخرج من ذلك الأخضر سنابل فيها الحب يركب بعضها فوق بعض مثل‏:‏ سنبل القمح والشعير والارز والذرة وسائر الحبوب وفي تقديم الزرع على النخيل دليل على الأفضلية ولأن حاجة الناس إليه أكثر لأنه القوت المألوف ‏{‏ومن النخل من طلعها قنوان دانية‏}‏ يعني من ثمرها‏.‏ يقال‏:‏ أطلعت النخلة إذا أخرجت طلعها وطلعها كفراها قبل أن ينشق عن الإغريض‏.‏ والإغريض‏:‏ يسمى طلعاً أيضاً وهو ما يكون في قلب الطلع والطلع أول ما يبدو ويخرج من ثمر النخل كالكيزان يكون فيه العذق فإذا شق عنه كيزانه سمي عذقاً وهو القنو وجمعه قنوان مثل‏:‏ صنو وصنون‏.‏ دانية أي قريبة التناوي ينالها القائم والقاعد وقال مجاهد‏:‏ متدلية‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ قصار ملتصقة بالأرض وفيه اختصار وحذف تقديره ومن النخل ما قنوانها دانية قريبة ومنها ما هي بعيدة عالية فاكتفى بذكر القريبة عن البعيدة لشدة الاهتمام بها ولأنها أسهل تناولاً من البعيدة لأن البعيدة تحتاج إلى كلفة ‏{‏وجنات من أعناب‏}‏ يعني وأخرجنا من ذلك بساتين من أعناب ‏{‏والزيتون والرمان‏}‏ يعني وأخرجنا شجرة الزيتون وشجر الرمان ‏{‏مشتبهاً‏}‏ قال قتادة مشتبهاً ورقها مختلفاً ثمرها لأن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان ‏{‏وغير متشابه‏}‏ يعني ومنها غير متشابه في الورق والطعم‏.‏ واعلم أن الله تعالى ذكر في هذه الآية أربعة أنواع من الشجرة بعد ذكر الزرع وإنما قدم الزرع على سائر الأشجار لأن الزرع غذاء وثمار أشجار فواكه والغذاء مقدم على الفواكه وإنما قدم النخلة على غيرها لأن ثمرتها تجري مجرى الغذاء، وفيها من المنافقع والخواص ما ليس في غيرها من الأشجار وإنما ذكر العنب عقب النخلة؛ لأنها من أشرف أنواع الفواكه ثم ذكر عقبه الزيتون لما فيه من البركة والمنافع الكثرة في الأكل وسائر وجوه الاستعمال ثم ذكر عقيبه الرمان لما فيه من المنافع أيضاً لأنه فاكهة ودواء ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه‏}‏ يعني ونضجه وإدراكه‏.‏ والمعنى انظروا نظر استدلال واعتبروا كيف أخرج الله تعالى هذه التمرة الرطبة اللطيفة من هذه الشجرة الكثيفة اليابسة وهو قوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون‏}‏ يعني يصدقون أن الذي أخرج هذا النبات وهذه الثمار قادر على أن يحيى الموتى ويبعثهم وإنما احتج الله عليهم بتصريف ما خلق ونقله من حال إلى حال وهو ما يعلمونه قطعاً ويشاهدونه من إحياء الأرض بعد موتها وإخراج سائر أنواع النبات والثمار منها وأنه لا يقدر على ذلك أحد إلا الله تعالى ليبين أنه تعالى كذلك قادر على أن يحييهم بعد موتهم ويبعثهم يوم القيامة فاحتج عليهم بهذه الأشياء لأنهم كانوا ينكرون البعث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 102‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏100‏)‏ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏101‏)‏ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏102‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏وجعلوا لله شركاء الجن‏}‏ قال الحسن‏:‏ معناه أطاعوا الجن في عبادة الأوثان‏.‏ وهو اختيار الزجاج‏.‏ قال‏:‏ معناه إنهم أطاعوا الجن فيما سولت لهم من شركهم فجعلوهم شركاء لله‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ نزلت في الزنادقة أثبتوا الشرك لاثنين في الخلق فقالوا الله خالق النور والناس والدواب والأنعام وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب ونقل هذا القول ابن الجوزي عن ابن السائب ونقله الرازي عن ابن عباس‏.‏ قال الإمام فخر الدين‏:‏ وهذا مذهب المجوس‏.‏ وإنما قال ابن عباس‏:‏ هذا قول الزنادقة، لأن المجوس يلتبسون بالزندقة، لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل من السماء سماه بالزند والمنسوب إليه زندي ثم عرب‏:‏ فقيل‏:‏ زنديق فإذا جمع، قيل‏:‏ زنادقة‏.‏ ثم إن المجوس قالوا‏:‏ كل ما يكون في هذا العالم من الخير فهو من يزدان يعني النور وجميع ما في العالم من الشر فهو من الظلمة يعني إبليس ثم اختلف المجوس فالأكثرون منهم على أن إبليس محدث ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة والأقلون منهم قالوا‏:‏ إنه قديم وعلى كلا القولين فقد اتفقوا على أنه شريك الله في تدبير هذا العالم فما كان من خير فمن الله وما كان من شر فمن إبليس تعالى الله عن قولهم علوّاً كبيراً‏.‏

فإن قلت فعلى هذا القول إنما أثبتوا لله شريكاً واحداً وهو إبليس فكيف حكى الله أنهم جعلوا له شركاء قلت‏:‏ إن إبليس له أعوان من جنسه وحزبه وهم شياطين الجن يعملون أعماله فصح ما حكاه الله عنهم من أنهم جعلوا له شركاء الجن ومعنى الآية وجعلوا الجن شركاه لله واختلفوا في معنى هذه الشركة فمن قال إن الآية في كفار العرب قال إنهم لما أطاعوا الجن فما أمروهم به من عبادة الأصنام فقد جعلوهم شركاء لله ومن قال إنها في المجوس قال إنهم أثبتوا إلهين اثنين النور والظلمة، وقيل إن كفار العرب قالوا الملائكة بنات الله وهم شركاؤه فعلى هذا القول فقد جعلوا الملائكة من الجن وذلك لأنهم مستورون عن الأعين‏.‏

وقوله ‏{‏وخلقهم‏}‏ في معنى الكناية قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها تعود إلى الجن فيكون المعنى‏:‏ والله خلق الجن فكيف يكون شريك الله من هو محدث مخلوق‏.‏

والقول الثاني‏:‏ إن الكناية تعود إلى الجاعلين لله شركاء فيكون المعنى‏:‏ وجعلوا لله الذي خلقهم شركاء لا يخلقون شيئاً‏.‏

وهذا كالدليل القاطع بأن المخلوق لا يكون شريكه لله وكل ما في الكون محدث مخلوق والله تعالى هو الخالق لجميع ما في الكون فامتنع أن يكون لله شريك في ملكه ‏{‏وخرقوا له بنين وبنات بغير علم‏}‏ أي اختلقوا وكذبوا يقال‏:‏ اختلق واخترق على فلان إذا كذب عليه وذلك أن النصارى وطائفة من اليهود ادعوا أن لله ابناً، وكفار العرب ادعوا أن الملائكة بنات الله وكذبوا على الله جميعاً فيما ادعوه وقوله ‏{‏بغير علم‏}‏ كالتنبيه على ما هو الدليل القاطع على فساد هذا القول لأن الولد جزء من الأب والله سبحانه وتعالى لا يتجزأ فثبت بهذا فساد قول من يدعي أن لله ولداً ثم نزه الله تعالى نفسه عن اتخاذ الولد وعن هذه الأقاويل الفاسدة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏سبحانه وتعالى عما يصفون‏}‏ فقوله سبحانه فيه تنزيه الله عن كل ما لا يليق بجلاله وقوله تعالى يعني هو المتعالي عن كل اعتقاد باطل وقول فاسد، أو يكون المعنى‏:‏ المتعالي عن اتخاذ الولد والتشريك وقوله ‏{‏عما يصفون‏}‏ يعني عما يصفونه به من الكذب‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏بديع السموات والأرض‏}‏ الإبداع عبارة عن تكوين الشيء على غير مثال سبق والله تعالى خلق السموات والأرض على غير مثال سبق ‏{‏أنى يكون له ولد‏}‏ يعني من أين يكون له ولد ‏{‏ولم تكن له صاحبة‏}‏ لأن الولد لا يكون إلا من صاحبة أنثى ولا ينبغي أن تكون لله صاحبة لأنه ليس كمثله شيء ‏{‏وخلق كل شيء‏}‏ يعني أن الصاحبة والولد في جملة من خلق لأنه خالق كل شيء وليس كمثله شيء فكيف يكون الولد لمن لا مثل له وإذا نسب الولد والصاحبة إليه فقد جعل له مثل والله تعالى منزه عن المثلية وهذه الآية حجة قاطعة على فساد قول النصارى ‏{‏وهو بكل شيء عليم‏}‏ يعني أنه تعالى عالم بجميع خلقه لا يعزب عن علمه شيء وعلمه محيط بكل شيء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم الله ربكم‏}‏ يعني ذلكم الله الذي من صفته أنه خلق السموات والأرض وأبدعهما على غير مثال سبق ‏{‏وأنه بكل شيء عليم‏}‏ هو ربكم الذي يستحق العبادة لا من تدعون من دونه من الأصنام لأنها جمادات لا تخلق ولا تضر ولا تنفع ولا تعلم والله تعالى هو الخالق الضار النافع ‏{‏لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه‏}‏ يعني أنه هو الذي يستحق العبادة فاعبدوه وأطيعوه ‏{‏وهو على كل شيء وكيل‏}‏ يعني أنه هو تعالى على كل شيء خلق رقيب حفيظ، يقوم بأرزاق جميع خلقه‏.‏